الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)
فَتَرَاهُ نَسَبَ الضَّرْبَ لِبَنِي عَبْسٍ مَعَ تَصْرِيحِهِ أَنَّ الضَّارِبَ الَّذِي نَبَا بِيَدِهِ السَّيْفُ عَنْ رَأْسِ خَالِدٍ يَعْنِي ابْنَ جَعْفَرٍ الْكِلَابِيِّ، هُوَ وَرْقَاءُ يَعْنِي ابْنَ زُهَيْرٍ الْعَبْسِيِّ.وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْحُجُرَاتِ أَنَّ مِنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} [49/ 147]، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَى قَوْلِهِ: {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [9/ 99].وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى قَوْلِهِ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ: أَيْ «إِلَّا لِيُقِرُّوا لِي بِالْعُبُودِيَّةِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا»، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يُطِيعُ بِاخْتِيَارِهِ وَالْكَافِرَ مُذْعِنٌ مُنْقَادٌ لِقَضَاءِ رَبِّهِ جَبْرًا عَلَيْهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتَارَهُ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [13/ 15]، وَالسُّجُودُ وَالْعِبَادَةُ كِلَاهُمَا خُضُوعٌ وَتَذَلُّلٌ لِلَّهِ- جَلَّ وَعَلَا- وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يَفْعَلُ ذَلِكَ طَوْعًا وَبَعْضَهُمْ يَفْعَلُهُ كَرْهًا.وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ: أَيٌّ إِلَّا لِيَعْرِفُونِي. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ لِهَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [43/ 87]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا كَثْرَتَهُ فِيهِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [17/ 9].وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا مَعْنَى قَوْلِهِ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ: أَيْ إِلَّا لِآمُرُهُمْ بِعِبَادَتِي فَيَعْبُدُنِي مَنْ وَفَّقْتُهُ مِنْهُمْ لِعِبَادَتِي دُونَ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَإِرَادَةُ عِبَادَتِهِمُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهَا بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لِيَعْبُدُونِ- إِرَادَةٌ دِينِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ وَهِيَ الْمُلَازِمَةُ لِلْأَمْرِ، وَهِيَ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ مَنْ أَمَرَتْهُمُ الرُّسُلُ لِطَاعَةِ اللَّهِ، لَا إِرَادَةٌ كَوْنِيَّةٌ قَدَرِيَّةٌ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَعَبَدَهُ جَمِيعُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَالْوَاقِعُ خِلَافُ ذَلِكَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: التَّحْقِيقُ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، أَيْ إِلَّا لِآمُرُهُمْ بِعِبَادَتِي وَأَبْتَلِيهِمْ أَيْ أَخْتَبِرُهُمْ بِالتَّكَالِيفِ، ثُمَّ أُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، لِأَنَّهُ تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ لِيَبْتَلِيَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَأَنَّهُ خَلَقَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ.قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [11/ 7]، ثُمَّ بَيَّنَ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [11/ 7].وَقَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُلْكِ: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [67/ 2].وَقَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [18/ 7].فَتَصْرِيحُهُ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ بِأَنَّ حِكْمَةَ خَلْقِهِ لِلْخَلْقِ، هِيَ ابْتِلَاؤُهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، يُفَسِّرُ قَوْلَهُ: لِيَعْبُدُونِ. وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ- الْقُرْآنُ.وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَتِيجَةَ الْعَمَلِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِجَزَاءِ الْمُحْسِنِ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءِ بِإِسَاءَتِهِ، وَلِذَا صَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّ حِكْمَةَ خَلْقِهِمْ أَوَّلًا وَبَعْثِهِمْ ثَانِيًا، هُوَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءِ بِإِسَاءَتِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ يُونُسَ: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [10/ 4]، وَقَوْلُهُ فِي النَّجْمِ: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [53/ 31].وَقَدْ أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَى الْإِنْسَانِ حُسْبَانَهُ وَظَنَّهُ أَنَّهُ يُتْرَكُ سُدًى، أَيْ مُهْمَلًا، لَمْ يُؤْمَرْ وَلَمْ يُنْهَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا نَقَلَهُ مِنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ حَتَّى أَوْجَدَهُ إِلَّا لِيَبْعَثَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ أَيْ وَيُجَازِيَهُ عَلَى عَمَلِهِ، قَالَ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} إِلَى قَوْلِهِ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [75/ 36- 40].وَالْبَرَاهِينُ عَلَى الْبَعْثِ دَالَّةٌ عَلَى الْجَزَاءِ، وَقَدْ نَزَّهَ تَعَالَى نَفْسَهُ عَنْ هَذَا الظَّنِّ الَّذِي ظَنَّهُ الْكُفَّارُ بِهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَبْعَثُ الْخَلْقَ وَلَا يُجَازِيهِمْ مُنْكِرًا ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [23/ 115- 116].وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَحْقَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} [46/ 3].تَنْبِيهٌ:اعْلَمْ أَنَّ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى حِكْمَةِ خَلْقِ اللَّهِ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَهْلِهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا قَدْ يَظُنُّ غَيْرُ الْمُتَأَمِّلِ أَنَّ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافًا، وَالْوَاقِعُ خِلَافُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَا يُخَالِفُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَكَرَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ أَنَّ حِكْمَةَ خَلْقِهِ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ هِيَ إِعْلَامُ خَلْقِهِ بِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ الطَّلَاقِ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [65/ 12].وَذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ كَوْنَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [2/ 163]، ثُمَّ أَقَامَ الْبُرْهَانَ عَلَى أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَى قَوْلِهِ: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [2/ 164]، وَلَمَّا قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [2/ 21]، بَيَّنَ أَنَّ خَلْقَهُمْ بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الْآيَةَ [2/ 21].وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ الْمَعْبُودَ وَاحِدٌ بِكَوْنِهِ هُوَ الْخَالِقُ- كَثِيرٌ جِدًّا فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا} الْآيَةَ [25/ 2- 3]، وَفِي سُورَةِ الرَّعْدِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} الْآيَةَ [13/ 16]، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لِيَبْتَلِيَ النَّاسَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [11/ 7].وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} الْآيَةَ [10/ 4]، وَذَكَرَ فِي آيَةِ الذَّارِيَاتِ هَذِهِ أَنَّهُ مَا خَلَقَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُوهُ، فَقَدْ يَظُنُّ غَيْرُ الْعَالِمِ أَنَّ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ اخْتِلَافًا مَعَ أَنَّهَا لَا اخْتِلَافَ بَيْنِهَا، لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ فِيهَا كُلِّهَا رَاجِعٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَطَاعَتُهُ وَمَعْرِفَةُ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، فَقَوْلُهُ: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [65/ 12]،وَقَوْلُهُ: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [2/ 21] رَاجِعٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ هُوَ الْعِلْمُ بِاللَّهِ، لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ أَطَاعَهُ وَوَحَّدَهُ.وَهَذَا الْعِلْمُ يُعَلِّمُهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ وَيُرْسِلُ لَهُمُ الرُّسُلَ بِمُقْتَضَاهُ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، فَالتَّكْلِيفُ بَعْدَ الْعِلْمِ، وَالْجَزَاءُ بَعْدَ التَّكْلِيفِ، فَظَهَرَ بِهَذَا اتِّفَاقُ الْآيَاتِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَابُدَّ لَهُ مِنْ تَكْلِيفٍ، وَهُوَ الِابْتِلَاءُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَاتِ وَالتَّكْلِيفُ لَابُدَّ لَهُ مِنْ عِلْمٍ، وَلِذَا دَلَّ بَعْضُ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ حِكْمَةَ الْخَلْقِ لِلْمَخْلُوقَاتِ هِيَ الْعِلْمُ بِالْخَالِقِ، وَدَلَّ بَعْضُهَا عَلَى أَنَّهَا الِابْتِلَاءُ، وَدَلَّ بَعْضُهَا عَلَى أَنَّهَا الْجَزَاءُ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، وَبَعْضُهُ مُرَتَّبٌ عَلَى بَعْضٍ.وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فِي كِتَابِنَا دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ فِي سُورَةِ هُودٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [11/ 119]، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ الْإِرَادَةَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهَا بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ أَيْ وَلِأَجْلِ الِاخْتِلَافِ إِلَى شَقِيٍّ وَسَعِيدٍ خَلَقَهُمْ، وَفِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [7/ 179] إِرَادَةٌ كَوْنِيَّةٌ قَدَرِيَّةٌ، وَأَنَّ الْإِرَادَةَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهَا بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، إِرَادَةٌ دِينِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ.وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَيْضًا الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ مُنْقَسِمًا إِلَى شَقِيٍّ وَسَعِيدٍ، وَأَنَّهُ كَتَبَ ذَلِكَ وَقَدَّرَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [64/ 2]،: وَقَالَ: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [42/ 7].وَالْحَاصِلُ: أَنَّ اللَّهَ دَعَا جَمِيعَ النَّاسِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَأَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، وَأَمْرُهُ بِذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ- جَلَّ وَعَلَا- يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ بِإِرَادَتِهِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ فَيَصِيرُونَ إِلَى مَا سَبَقَ بِهِ الْعِلْمُ مِنْ شَقَاوَةٍ وَسَعَادَةٍ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَقَوْلِهِ: وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِرَادَةَ قَدْ تَكُونُ دِينِيَّةً شَرْعِيَّةً، وَهِيَ مُلَازِمَةٌ لِلْأَمْرِ وَالرِّضَا، وَقَدْ تَكُونُ كَوْنِيَّةً قَدَرِيَّةً وَلَيْسَتْ مُلَازِمَةً لَهُمَا، لِأَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْجَمِيعَ بِالْأَفْعَالِ الْمُرَادَةِ مِنْهُمْ دِينًا، وَيُرِيدُ ذَلِكَ كَوْنًا وَقَدَرًا مِنْ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [4/ 64]،فَقَوْلُهُ: إِلَّا لِيُطَاعَ أَيْ: فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِنَا، لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ مُرَادٌ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ شَرْعًا وَدِينًا، وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ كَوْنًا وَقَدَرًا، وَاللَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- يَقُولُ: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [10/ 25]، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ}.قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [6/ 14].
وَيُرْوَى: فَإِنْ أَبَى كَانَ لَنَا الْقَلِيبُ وَمِنْ إِطْلَاقِ الذَّنُوبِ عَلَى مُطْلَقِ النَّصِيبِ قَوْلُ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدَةَ التَّمِيمِيِّ، وَقِيلَ عَبِيدٌ: وَقَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ: فَالذَّنُوبُ فِي الْبَيْتَيْنِ النَّصِيبُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِنَّ لِلَّذِينِ ظَلَمُوا بِتَكْذِيبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَنُوبًا، أَيْ نَصِيبًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مِنَ الْعَذَابِ لَمَّا كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ.وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [39/ 50].وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} [13/ 6]، وَفِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [19/ 84]، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.
فَقَوْلُهُ: مَسْجُورَةً أَيْ عَيْنًا مَمْلُوءَةً مَاءً، وَقَوْلُ النَّمِرِ بْنِ تَوْلَبٍ الْعُكْلِيِّ: وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي مَعْنَى الْمَسْجُورِ هُمَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [81/ 6]، وَأَمَّا الْآيَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي أَقْسَمَ فِيهَا تَعَالَى بِمَا يَشْمَلُ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَغَيْرِهَا، فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} [69/ 38- 39]، لِأَنَّ الْإِقْسَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَامٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ.وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ الذَّارِيَاتِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [55/ 41]، أَيْ تَجْمَعُ الزَّبَانِيَةُ بَيْنَ نَاصِيَةِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ، أَيْ مُقَدَّمِ شَعْرِ رَأْسِهِ وَقَدَمِهِ، ثُمَّ تَدْفَعُهُ فِي النَّارِ بِقُوَّةٍ وَشِدَّةٍ.وَقَدْ بَيَّنَ- جَلَّ وَعَلَا- أَنَّهُمْ أَيْضًا يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [54/ 48]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [40/ 70- 72].وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {يَوْمَ يُدَعُّونَ}- بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: {يَوْمئِذٍ} فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قَبْلَهُ: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [52/ 11].
|